الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وممن صرح به الماوردي حيث قال الفرق بينهما أن الظلم منع الحق كله والهضم منع بعضه.وقرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد {فَلاَ يُخَفَّفُ} على النهي.قال الطيبي قراءة الجمهور توافق قوله تعالى: {وَقَدْ خَابَ} [طه: 111].. إلخ. من حيث الأخبار وأبلغ من القراءة الأخرى من حيث الاستمرار والأخرى أبلغ من حيث أنها لا تقبل التردد في الإخبار.{وكذلك} عطف على {كذلك نَقُصُّ} [طه: 99] والإشارة إلى إنزال ما سبق من الآيات المتضمنة للوعيد المنبئة عما سيقع من أحوال القيامة وأهوالها أي مثل ذلك الإنزال {أنزلناه} أي القرآن كله وهو تشبيه لإنزال الكل بإنزال الجزء والمراد أنه على نمط واحد، وإضماره من غير سبق ذكره للإيذان بنباهة شأنه وكونه مركوزًا في العقول حاضرًا في الأذهان {قُرْءانًا عَرَبِيًّا} ليفهمه العرب ويقفوا على ما فيه من النظم المعجز الدال على كونه خارجًا عن طوق الآدميين نازلًا من رب العالمين {وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الوعيد} أي كرر نافيه بعض الوعيد أو بعضًا من الوعيد، والجملة عطف على جملة {أنزلناه} وجعلها حالًا قيد للإنزال خلاف الظاهر جدًا.{لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} المفعول محذوف وتقدم الكلام في لعل، والمراد لعلهم يتقون الكفر والمعاصي بالفعل {أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} أي عظة واعتبارًا مؤديًا في الآخرة إلى الاتقاء، وكأنه لما كانت التقوى هي المطلوبة بالذات منهم أسند فعلها إليهم ولما لم يكن الذكر كذلك غير الأسلوب إلى ما سمعت كذا قيل، وقيل: المراد بالتقوى ملكتها، وأسندت إليهم لأنها ملكة نفسانية تناسب الإسناد لمن قامت به، وبالذكر العظة الحاصلة من استماع القرآن المثبطة عن المعاصي، ولما كانت أمرًا يتجدد بسبب استماعه ناسب الإسناد إليه، ووصفه بالحدوث المناسب لتجدد الألفاظ المسموعة، ولا يخفى بعد تفسير التقوى بملكتها على أن في القلب من التعليل شيئًا.وفي البحر أسند ترجي التقوى إليهم لأن التقوى عبارة عن انتفاء فعل القبيح وذلك استمرار على العدم الأصلي، وأسند ترجي أحداث الذكر للقرآن لأن ذلك أمر حدث بعد أن لم يكن انتهى، وهو مأخوذ من كلام الإمام وفي قوله: لأن التقوى إلى آخره على إطلاقه منع ظاهر، وفسر بعضهم التقوى بترك المعاصي والذكر بفعل الطاعات فإنه يطلق عليه مجاز لما بينهما من السببية والمسببية فكلمة أو على ما قيل للتنويع، وفي الكلام إشارة إلى أن مدار الأمر التخلية والتحلية.والإمام ذكر في الآية وجهين، الأول: أن المعنى إنما أنزلنا القرآن ليصيروا محترزين عن فعل ما لا ينبغي أو يحدث لهم ذكرًا يدعوهم إلى فعل ما ينبغي فالكلام مشير أيضًا إلى التخلية والتحلية إلا أنه ليس فيه ارتكاب المجار، والثاني: أن المعنى أنزلنا القرآن ليتقوا فإن لم يحصل ذلك فلا أقل من أن يحدث لهم ذكرًا وشرفًا وصيتًا حسنًا، ولا يخفى أن هذا ليس بشيء، وقال الطيبي: إن المعنى وكذلك أنزلناه قرآنًا عربيًا أي فصيحًا ناطقًا بالحق ساطعًا بيناته لعلهم يحدث لهم التأمل والتفكر في آياته وبيناته الوافية الشافية فيذعنون ويطيعون وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون العذاب، ففي الآية لف من غير ترتيب وهي على وزان قوله تعالى: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} [طه: 44] وعندي كون الآية متضمنة للتخلية والتحلية لا يخلو عن حسن فتأمل.وقرأ الحسن {أَوْ يُحْدِثُ} بسكون الثاء، وقرأ عبد الله ومجاهد وأبو حيوة والحسن في رواية والجحدري وسلام {أَوْ نُحْدِثْ} بالنون وسكون الثاء وذلك حمل وصل على وقف أو تسكين حرف الإعراب استثقالًا لحركته كما قال ابن جني نحو قول امرئ القيس: وقول جرير: {فتعالى الله} استعظام له تعالى ولما صرف في القرآن من الوعد والوعيد والأوامر والنواهي وغير ذلك وتنزيه لذاته المتعالية أن لا يكون إنزال قرآنه الكريم منتهيًا إلى غاية الكمالية من تسببه لترك من أنزل عليهم المعاصي، ولفعلهم الطاعات وفيه تعجيب واستدعاء للإقبال عليه وعلى تعظيمه، وفي وصفه تعالى بقوله سبحانه {الملك} أي المتصرف بالأمر والنهي الحقيق بأن يرجى وعده ويخشى وعيده ما يدل على أن قوارع القرآن سياسات إلهية يتضمن صلاح الدارين لا يحيد عنها إلا مخذول هالك، وقوله تعالى: {الحق} صفة بعد صفة لله تعالى أي الثابت في ذاته وصفاته عز وجل، وفسره الراغب بموجد الشيء على ما تقتضيه الحكمة.وجوز غير واحد كونه صفة للملك ومعناه خلاف الباطل أي الحق في ملكيته يستحقها سبحانه لذاته، وفيه إيماء إلى أن القرآن وما تضمنه من الوعد والوعيد حق كله لا يحوم حول حماه الباطل بوجه وأن المحق من أقبل عليه بشراشره وأن المبطل من أعرض عن تدبر زواجره، وفيه تمهيد لوصل النهي عن العجلة به في قوله سبحانه: {وَلاَ تَعْجَلْ بالقرءان مِن قَبْلِ إَن يقضى إِلَيْكَ} أي يتم {وَحْيُهُ} أي تبليغ جبريل عليه السلام إياه فإن من حق الإقبال ذلك وكذلك من حق تعظيمه.وذكر الطيبي أن هذه الجملة عطف على قوله تعالى: {فتعالى الله الملك الحق} لما فيه من إنشاء التعجب فكأنه قيل حيث نبهت على عظمة جلالة المنزل وأرشدت إلى فخامة المنزل فعظم جنابه الملك الحق المتصرف في الملك والملكوت، وأقبل بكلك على تحفظ كتابه وتحقق مبانيه ولا تعجل به، وكان صلى الله عليه وسلم إذا ألقى عليه جبريل عليه السلام القرآن يتبعه عند تلفظ كل حرف وكل كلمة خوفًا أن يصعد عليه السلام ولم يحفظه صلى الله عليه وسلم فنهى عليه الصلاة والسلام عن ذلك إذ ربما يشغل التلفظ بكلمة عن سماع ما بعدها، ونزل عليه أيضًا: {لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة: 16] الآية، وأمر صلى الله عليه وسلم باستفاضة العلم واستزادته منه سبحانه فقيل: {وَقُلْ} أي في نفسك {رَّبّ زِدْنِى عِلْمًا} أي سل الله عز وجل بدل الاستعجال زيادة العلم مطلقًا أو في القرآن فإن تحت كل كلمة بل كل حرف منه أسرارًا ورموزًا وعلومًا جمة وذلك هو الأنفع لك، وقيل: وجملة {وَلاَ تَعْجَلْ} مستأنفة ذكرت بعد الإنزال على سبيل الاستطراد، وقيل: إن ذلك نهي عن تبليغ ما كان مجملًا قبل أن يأتي بيانه وليس بذاك، فإن تبليغ المجمل وتلاوته قبل البيان مما لا ريب في صحته ومشروعيته.ومثله ما قيل: إنه نهى عن الأمر بكتابته قبل أن تفسر له المعاني وتتقرر عنده عليه الصلاة والسلام بل هو دونه بكثير، وقيل: إنه نهى عن الحكم بما من شأنه أن ينزل فيه قرآن بناءً على ما أخرج جماعة عن الحسن أن امرأة شكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن زوجها لطمها فقال لها: بينكما القصاص فنزلت هذه الآية فوقف صلى الله عليه وسلم حتى نزل: {الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النساء} [النساء: 34]، وقال الماوردي: إنه نهى عن العجلة بطلب نزوله.وذلك أن أهل مكة وأسقف نجران قالوا: يا محمد أخبرنا عن كذا وقد ضربنا لك أجلًا ثلاثة أيام فأبطأ الوحي عليه وفشت المقالة بين اليهود وزعموا أنه عليه الصلاة والسلام قد غلب فشق ذلك عليه صلى الله عليه وسلم واستعجل الوحي فنزلت: {وَلاَ تَعْجَلْ}.. إلخ. وفي كلا القولين ما لا يخفى.وقرأ عبد الله والجحدري والحسن وأبو حيوة وسلام ويعقوب والزعفراني وابن مقسم {نقضي} بنون العظمة مفتوح الياء {إِلَيْكَ وَحْيُهُ} بالنصب.وقرأ الأعمش كذلك إلا أنه سكن الياء من {نقضي}، قال صاحب اللوامح: وذلك على لغة من لا يرى فتح الياء بحال إذا انكسر ما قبلها وحلت طرفًا، واستدل بالآية على فضل العلم حيث أمر صلى الله عليه وسلم بطلب زيادته، وذكر بعضهم أنه ما أمر عليه الصلاة والسلام بطلب الزيادة في شيء إلا العلم.وأخرج الترمذي: وابن ماجه عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم انفعني بما علمتني وعلمني ما ينفعني وزدني علمًا والحمد لله على كل حال».وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد عن ابن مسعود أنه كان يدعو {اللهم زِدْنِى إيمانا شَىْء رَّحْمَةً وَعِلْمًا} وما هذا إلا لزيادة فضل العلم وفضله أظهر من أن يذكر، نسأل الله تعالى أن يرزقنا الزيادة فيه ويوفقنا للعمل بما يقتضيه. اهـ.
|